إبتسم …. أنت في غزة

قياسي

من يسر في شوارع غزة هذه الأيام فإنه يجد منظرا لا يحدث إلا في غزة فقط ، وهو منظر عائلات كثيرة مشغولة بالبحث عن بقايا الحجارة ونثار الحصى الذي تعج به شوارع غزة عقب الدمار ، بعد أن أصبحت كسارة الحجارة ونثارها دخلا يساعد على تكاليف الحياة ، لأنها تعاد لتطحن من جديد وتخلط بالإسمنت المتسلل عبر الأنفاق وتصبح حجارة جديدة أو بلاطا جديدا، وهذا يشير إلى قدرة الغزي على الابتكار وتحدي الحصار ، وهو أيضا يرمز إلى رغبة الغزيين في الحياة ، فهم يضحون بحياتهم لأجل الحياة الحرة لأجيالهم وأبنائهم، وليس كما يُشاع بأنهم يرغبون في الموت لأجل الموت !

وما أكثر ابتكارات الغزيين بفعل الحاجة، فقد حولوا طلمبات رش الأدوية الزراعية إلى مواقد تضغط هواء الكاز في البوابير التقليدية، وتمكنوا من تحويل البطاريات إلى طاقة كهربية تشعل المصابيح ، واستغلوا شبكة الهاتف المنزلي لإضاءة بيوتهم ، وحولوا بعض السيارات إلى ماركات غزية مجهولة بعد أن أخذوا من بعض السيارات محركها ومن سيارات أخرى هيكلها ، وأجروا تعديلا على تصميمها ، بعد أن نجحوا في تحويل سيارات البترول إلى سيارات تعمل بالغاز أو زيت الطعام، وحولوا الدراجات النارية أيضا إلى سيارات نقل .

وليس هناك مكانٌ في العالم يمكنك أن تسمع فيه صوتُ البائعين في الشوارع وعبر مكبرات الصوت يعلنون عن استعدادهم لشراء الدقيق المملوء بالسوس والديدان ، و سيقومون بإعادة تدويره هو الأخر ، و سيعدون استعماله من جديد ؟!

وحوّل الغزيون تعبير (غبار المصنع) للدلالة على حداثة الأجهزة والآلات والأدوات المشتراة إلى تعبير جديد وهو (رمل الأنفاق) فهم لا يزيلون رمال الأنفاق عن البضائع حتى يظن المشترون أنها قدمت للتو من قبو الأنفاق ، فاسطوانات الغاز تبقى بتراب الأنفاق ، حتى علب الأجبان والبضائع وزجاجات زيت الزيتون تظل مملوءة ببقايا الرمل للدلالة على طزاجتها ، وليس مهما اسم منتجها أو تاريخ صلاحيتها !!

وما يحدث في غزة أيضا ويدعو للابتسام…. صورة رجل كهلٍ يركب دراجة نارية ، ولا يلبس لباس الدراجة النارية الخاص كالخوذة الواقية ، وهذا ليس غريبا ، وإنما الغريب في الأمر أنه يركبها وهو يلبس ملابس شيوخ القبائل أي يلبس جلابية وفوقها سترة ويلبس الحطة الفلسطينية والعقال ، وهذا النمط من اللباس يمكن أن يصلح لكل شيء إلا لركوب دراجة نارية .

وبالأمس كدتُ أنفجر ضاحكا وأنا أرى منظرا آخر غريبا وهو منظر رجل في الخمسينيات من العمر أيضا يركب دراجة نارية وهو يلبس البالطو الأسود الطويل الذي يغطي بدلة قديمة وهو يربط كرفته حمراء ، ولم ينته المنظر عند ذلك بل إنه يضع على رأسه طاقية مضغوطة بقوة كي لا تطير عن الرأس، وهي طاقية مصطفى كمال أتاتورك المستديرة !

وفي غزة فقط لا تستغرب وأنت تسير في أحد الشوارع الكبيرة أن ترى دكانا يبيع إلكترونيات ومواد كهربية ، ويعرض أمام باب دكانه حاملا حديديا وفوقه نماذج وألوان من البلاط وكيسا من الإسمنت في الوقت نفسه !

ولا تُدهش وأنت في غزة ، عندما تذهب لشراء تنكة زيت زيتون أن يكون سعرها مقدرا بالدينار الأردني ، وكذا الحال إذا شاركت في جاهة لخطبة عروس فإن مهرها وذهبها ولوازم بيت الزوجية من أثاث وغيره أيضا يكون بالدينار الأردني ! ولا تستغرب إذا ذهبت أيضا لتشترى خروفا من أسواق الغنم أن سعر الخروف أيضا يُقدر بالدينار الأردني، والغريب أن بدائل الدينار من العملات الأخرى لا تقبل في هذا المجال . واللغز المحير هو :

تُرى ما القاسم المشترك بين العروس وزيت الزيتون والخروف ؟!!!

أما إذا أردتَ أن تشتري سيارة أو شقة فالعملة تختلف ، فالسيارة والبيت يُقدر ثمنها بالدولار الأمريكي فقط لا غير ، ولا يمكنك أن تقيمها بغير ذلك ، ولا يمكن أن تنوب عنها عملةٌ أخرى !

أما بقية الأشياء الاستهلاكية كالأطعمة والمشروبات وما في حكمها فيمكنك أن تشتريها بالشيكل الإسرائيلي !

إن في ذلك فلسفة اجتماعية ونفسية تحتاج إلى دراسة واستقصاء !

أيكون القاسم المشترك هو أن الأشياء المثمنة بالدينار والدولار تشير إلى البيت والأسرة والقبيلة ؟ أم أن القاسم المشترك هو أنها أشياء موسمية لا تحدث إلا في مناسبة واحدة فقط، أم أنها تشير إلى رغبة الغزيين في أن يروا مستقبلا خاليا من عملة الشيكل، وأنهم باستعمال عملة الدينار والدولار يحسون بالانعتاق والحرية ؟

وأيضا في غزة فقط ينشغل كثيرون هذه الأيام بممارسة التعصب الرياضي ، لا لفريق فلسطين القومي ، أو لفريق غزة الوطني ، بل لفريقٍ أجنبي ، فمعظم الغزيين مقسومون بين فريقي برشلونة وريال مدريد الأسبانيين ، ومعظمهم مقسومون أيضا بين الأهلى والزمالك المصريين ، وربما كانت هناك عصائب أخرى لفرق أخرى ، بشرط ألا تكون الفرق فلسطينية !

ولا تعجب ففي غزة فقط أصبحت الوظيفة الحكومية الرئيسة ، وظيفة هامشية مساعدة ، بعد أن أُحيل كثير من الموظفين على التقاعد المبكر ،فصاروا يعتبرون دخلهم من الوظيفة دخلا من خارج الدوام أي ثانويا ، أما دخلهم الحقيقي فهو من أعمال جديدة ، فهم إما أنهم يعملون في سمسرة البيع والشراء أو سائقي سيارات أجرة ، أو عاملين في المؤسسات غير الحكومية، أو في مشاريع خاصة كمطاعم ومقاهٍ وحتى بسطات خضروات وفواكه .

وأيضا فقط في غزة …. فشوارعها مملوءة بعمال البطالة من كل الأقسام والأنواع عمال بطالة يتبعون وكالة الغوث الدولية وآخرون يتبعون جمعيات غير ربحية وأخرى تنظمها مؤسسات ، وكلهم يطاردون الرمل في شوارع غزة ، مع العلم بأن معظم شوارع غزة لا يمكن تنظيفها لأنها مدمرة وتحتاج أولا إلى إعادة تأهيل قبل النظافة ، وهذه الأبجدية يعرفها الصغير قبل الكبير ، إلا أن عمال البطالة يُرغمون بفعل الفقر والفاقة أن يزيلوا الرمل من جانب الشارع ليضعوا الرمل على الجانب الآخر ، في انتظار هبة ريح جديدة ليتمكن الفريقُ الذي سيخلفهم من نقل التراب نفسه إلى الجانب السابق !

 

 

وفي غزة فقط فإن المهنة الشعبية الأكثر رواجا هي مهنة استخدام الهواتف الخلوية ، أو النوم معها وإلى جوارها ، بعد أن أصبح سعر الرقم الهاتفي يعادل سعر علبتي سجائر ،!

ولا أنسى منظرا رأيته منذ أيام عندما جلست إلى جوار سائق سيارة أجرة وهو يضغط هاتفه المحمول بغمزة من كتفه ويلصقه بإذنه ويبدأ بالحديث مع أحدهم مسافة أربعة عشر كيلو متر بدون أن يتوقف عن الحديث ،وهو يقود السيارة والغريب أنه كان يستقبل النقود من الركاب ويعيد لهم الباقي وهو يتحدث ، ولما أحس رعبي وخوفي قال :

لا تخف يمكنني أن أصل القاهرة بدون أفقد تركيزي عن الطريق !

والحقيقة أن الإعلام لم يُفلح في تصوير غزة من داخلها ، فهذه اللوحات لقطات إعلامية مثيرة تقدم صورة عن المعاناة أفضل بكثير من خطب نجوم الأحزاب السياسية وتعليقاتهم وثرثرتهم وهم يشقون الأثواب باكين على الوحدة الوطنية المفقودة ، والتي هي من ضحاياهم !

كما أن كثيرا من الإعلاميين يخشون أن يُتابعوا قضايا اجتماعية وأمراضا نفسية عديدة خوفا ورعبا من نتائج تلك المتابعة ! فهم يخشون أن يُلام

أضف تعليق